أطفال الحرب في تعز .. معاناة نفسيّة وجروح لم تندمل
الساعة العاشرة ليلاً بتوقيت الحرب في مدينة تعز، لم يكن بحسبان خلود ذات الخامسة عشر ربيعا أنها ستكون مع موعد لتلقي صدمة نفسية وعصبية حادة تغير من حياتها.
هرع إليها والديها وأخوها الذي يكبرها، ليتم إسعافها إلى المستشفى على الفور، لتلقي العلاج اللازم، وبعد جلسات علاجية عديدة استعادت خلود النطق تدريجيا، فيما أطرافها اليمنى ما زالت تستجيب للعلاج ببطء، كما قالت والدتها.
قتل ورعب
عامان مضيا على إبراهيم، رغم التحسن الطفيف في حالته النفسية، بعد عرضه على استشارية في علم النفس، إلا أنه يعاود الاضطراب من فينة لأخرى، ومع ذلك يحمل علبة ألوانه وكراسة رسم، علها تُهدئ من توتره، ليصبح أبوه وأخوه طاغيين على جل بياض الورق.
وتضيف : «ومنذ ذلك الوقت وإبراهيم بحالة نفسية صعبة، يمتنع عن الاكل ويتشنج ولا اقدر على تهدئته ، وتغير تماما بعد مشاهدته لوالده وأخيه وهما يموتان أمامه».
طفولة مبتورة
لم تكن خلود وإبراهيم وحدهما من عانوا من اثار هذه الحرب فمثلهم أطفال أخرون، عانوا من اضطرابات نفسية متعددة على إثرها فقد أحدهم القدرة على الكلام، وأخر يسير متسترا يده اليمني المبتورة داخل جيب جاكت يرتديه عندما لاحظناه وهو في قسم الجراحة، يتحاشى أعين الناس له.
تحكي أم سلوى والتي تسكن في منطقة شعب الدبا: «كانت ابنتي في حضني بخير أحميها من الحرب، ولكن القدر حمل لها قذيفة بالشارع وهي تلعب لتبتر ساقها، وعانيت معها من حالتها النفسية المتعبة، بعد أن رأت نفسها بدون رجل، وترفض أن تبقى إلا بحضني أو حضن أبوها.
لم تترك الحرب بصمتها في الجسد فقط، كما هو واضح للعيان في كثير من ضحاياها، بل هي أبشع من ذلك، تصيب بضررها النفس بجروح لا تندمل.
إحصائيات
فاقمت الحرب من تدهور الصحة النفسية لليمنين بشدة، حيث كان لأطفال هذا البلد النصيب الأكبر من معاناة هذه الحرب، والذي بلغ عددهم 12,5 مليون نسمة، حيث أظهر مسح ميداني أجرته منظمة يمن لإغاثة الأطفال أن 31 % من الأطفال أصيبوا بأعراض جسدية كالصداع والإرهاق وآلام الصدر، وهو ما أعتبره الباحثون، مؤشر على الإصابة بأمراض نفسية.
ويعاني47 % من اضطرابات النوم، و24 % لديهم صعوبة في التركيز و17 % يعانون من نوبات هلع، كما يعاني 5 % من الأطفال من التبول اللاإرادي وفقا لمسح المنظمة ذاته، حيث أوضح المسح أن أطفال محافظات :صنعاء، تعز، عدن، وأبين أكثر إصابة بالخوف وانعدام الأمن والقلق والاكتئاب.
ما فعلته الحرب بالأطفال
يقول د. أكرم عبدالقادر وهو متخصص بالأمراض النفسية إن الحرب تترك آثارها السيئة على نفوس الأطفال، وتعد آثارها جرائم في حق الإنسانية جمعاء.
وعن آثار هذه الأضرار المستقبلية يوضح د. أكرم لـ«الأيام» أنها تبقى عالقة في أذهان الأطفال على هيئة كوابيس ولا يجدون تفسيرا لها، موضحا أن «حالة ما بعد الصدمة، من صور وأصوات وتخيلات، تبقى ساكنة في صمت في أعماق الطفل، إلى أن يتم استثارتها بين الحين والآخر، فتنفلت من مكانها عبر الأحلام والانفعالات، وبعض السلوكيات اليومية».
ويضيف د. أكرم عبدالقادر: «إن صدمة ما بعد الحرب ستترك آثارها النفسية والاجتماعية بعيدة المدى على الطفل، وبعض هذه الصدمات تحدث آثاراً عميقة في الطفل وتسبب له في بعض الأحيان بصدمات واضطرابات مؤلمة ، يعبر عن مشاعرها الطفل بأوجه مختلفة، منها العدوان نحو الآخرين والتعامل بخشونة مع الزملاء، وسرعة الاستثارة الانفعالية ،والتي تعتبر انعكاساً لحالة من الأمان التي كان يعيشها الطفل في مرحلة عمرية سابقة، وهو يحن للرجوع إليها كونها تذكّره بمرحلة ممتعة بالنسبة له، أو هروباً من الواقع الموجود حالياً».
معاناة لا حدود لها
يعايش أطفال اليمن حربا دون إرادة، جاءتهم لتباغت باب طفولتهم البريئة، فاقتحمت نفسيتهم وأجسادهم معا فيما لا تزال الحرب في أوجها، وفي كل يوم يزداد عدد الأطفال الذين يذوقون لعنتها وآثارها .
وعن برامج التأهيل النفسي للأطفال قالت المقطري لـ»الأيام» : «بعد أن شاهدنا الحالة النفسية التي اصيب بها الأطفال، كان ذلك حافزا، للقيام بعمل برامج عدة للتأهيل النفسي الأطفال، للانخراط في المجتمع مرة أخرى، حيث قمنا باستهداف ما يقارب 20 % منهم، واغلب الأسر عالجت أطفالها بنفسها.
ولفتت إلى أن هذه الآثار إذ لم تواجه بدعم نفسي حقيقي من قبل الدولة والمنظمات فإنها ستخلف آثارا سلبية كبيرة للأطفال، مشيرة إلى أن «المسؤولية الحقيقية تقع أولا على مكتب الصحة، من أجل عمل برامج وخطط لإعادة تأهيل الأطفال نفسيا، كحال المساحات الأمنة التي وجدت في مديرية المظفر ومديرية القاهرة».
سيتحدث الناس عن إعادة الإعمار، ولن يشيروا إلى أجيال متتالية خربتها هذه الحرب، لا توجد، حالياً وربما مستقبلاً، بنية تحتية طبية ونفسية جاهزة لاحتواء هذه المشكلة النفسية الخاصة، والذي سيجعل المشكلة متفاقمة أكثر، أن أحدا لا يفكر بهم.
.