العولقي يكتب عن الهرر : قيصر زمانه ..!
السبت 13 أغسطس 2016 07:01 صباحاً

الهرر:
كتب - محمد العولقي:
*ليس هناك ما هو أشد ألما على النفس من أن تنعي صديقا ، توسم فيك الصداقة المقدسة التي لا يحدها حد ، ولا يوثق وثاقها قانون !
* وفي رثاء الصديق قبل اللاعب القيصر (عبدالله هرر) تتخثر الكلمات على لساني ، وتتجلط بنت الشفة في قلبي، تأبى أن تفرش من قاموسها نعشا نسير خلفه في وداع أغلى الحبايب !
* مالحة هي الكلمات في فمي ، خانقة تلك الغصة التي ما أنفكت تتحرر من مأتمها حتى تدخل من جديد في سرادق حزن يتقطع لصداها عويل المكلومين برحيلك عن عالمنا (الزناط)!
*كانت رحلتك أيها القيصر طويلة وشاقة مع المرض ، وكانت رحتلك مع العقوق ونباشي القبور مضنية لا يحتملها بشري ينبض ضميره بالشفقة والرحمة ، اعياك يا (عبدالله) نكران ذوي القربى ، وانهك جسدك (ابليس )المحتال الذي يضحك لك أمام الناس ، وفي خلوته بك يبكيك دما لا دموعا ..!
*طال ليلك وأنت تعدد النجوم وتبث همك للذي لا تنام عينيه ، كنت تبلل وسادتك الخالية بدموع (هم الليل)، تنتظر غدا قد يأتي وقد لا يأتي ، وحملت عصاك بعد أن أستوطنها حريق الدم ، وكنت تستأنس بجراحك وقد صار لك رفيق قبل الطريق ، قدمك زمان الانسانية أسعدت وطنا مزقته الفرقة والشتات ، صنعت لنا تاريخا في (بنجلاديش) ، وبصم عليها كل لاعب هابها ، فجعل بينه وبينها سدا مخافة المواجهة !
* في تلك القدم يا عبدالله يلتقي مرج البحرين ، يختلط بها صنوف من المنافسين ، لكنها تبقى واحة لكل عابر سبيل ، وعين ماء لمن أضناه الترحال نحو مربعك السحري طبعا ، وضعوا تلك القدم على طاولات التشريح بعد أن تقاعدت وخرج قوم (يأجوج ومأجوج ) ينهلون من الماء العكر ما يشيب له الولدان المخلدون !
*برحيلك عن عالمك تغيرت خارطة المجرات ، وتبدلت سكة المسرات ، وتاه عنوان المحارات ، الابداع يتقاعد ، ورائحة الفئران تتصاعد من جحورها ، خرجت بغتة بعد مغادرة مرعبها ، كنت سيد الدفاع الأول ، لقد كنت أول من مارس بشاعرية الفيلسوف دور المدافع القشاش ، كنت أنت من يبدأ الهجمة من الخلف ، ولقد ورثت اسلوبك (القيصري) لخلفك الذي سار في ظلك (خالد عفارة) ، كانت حالة نادرة في تاريخ اللعبة أن يتسلم (الوزير) وزارته من (قيصر) ، كنت يا عبدالله مدافعا نابغة برتبة جلاد وردي ، شيء عجيب أن نرى مدافعا يجلد المهاجمين بالورود ، حالة لم تتكرر الا مع (فرانس بيكنباور ) ومن بعده (عبدالله صالح الهرر) والمحرك الديزل (صالح النعيمة) !
*كل شيء في فريق (الجيش) يبدأ من الخلف وتحديدا من الجوكر (الهرر) ، كان يؤدي دورين مزدوجين ، دور المدافع الهدام الذي يحمل في جرته الدفاعية بعض الملوحة ، ودور (البناي) الذي يحسن ترتيب الوضع وفتح اللعب في مختلف الجبهات ، حقيقة مر مدافعون قلة على مستوى العالم وأعطوا تعريفا مغايرا للاعب الحر الذي يتحكم في ايقاع اللعب بين الارتفاع و الانخفاض ، وكان ( عبدالله هرر) واحدا من هؤلاء القلة ، فقد غير مفهوم المدافع الصارم الذي يحمل شوكته على ظهره ، وجاء (قيصر) الجنوب ليعلمنا اللعب أمام المهاجمين بالشوكة والسكين ، جاء الى ملاعبنا حاملا فكرا ورديا ، مبدأه العام الظهير القشاش أساس البناء الهجومي من الخلف !
عندما قذف اللهب في مرمى حارس التلال (وجدي) أدى مهارة التموية بحركة نصف دائرية ، ولأنه المدافع الوحيد الذي كان يلعب ورأسه مرفوع ، فلم يشأ أن يتابع تسديدته ، لقد كان موقنا أنها تتجه الى هناك ، الى الزاوية التي حددها وعيه ، كان هدفا انتصاريا لنهج واسلوب (الهرر) الفريد من نوعه ..!
*فشل الكثيرون في تقليده ، حاولوا كثيرا معرفة سر خلطة (الهرر) فلم يفلحوا ، هذا لان القيصر المحترم سجل براءة اختراع اسلوبه في الشهر العقاري باسمه ، لقد شكل (الهرر) مع رفيق دربه (عثمان خلب ) ثنائيا منسجما ومتفاهما ، كانا يتبادلان الخواطر والأفكار بالنظرة والبسمة ، كانا اشبه بفولة وانقسمت نصفين ، كان الثنائي (هرر و خلب) مشروع دولي لم يكتب له الاستمرارية ، هذا لأن (الغيرة) كانت بالمرصاد لهذا المشروع الذي بناه المدرب الراحل (علي محسن مريسي) ، قدر لبعض المصابين بهلوسة الابتكار أن يتدخلوا لاجهاض المشروع ، وخسر المنتخب دعامة صلبة في الخلف ، فمثل (الهرر والخلب ) صعب تعويضهما ولو بعد قرن من التجارب في معامل فرسان التنظير .. كان ينتزع الكرة من المهاجمين بقدمه وأنفه دون أن يرتكب مخالفة واحدة ، كان (برنس) منطقته يطبق مبدأ الانتشار بفطرة وحدس ثعلب ينهك فريسته بقدرته المدهشة للسيطرة على أجواء المباريات ، وكأنه يسيج منطقته بمجال كهرو مغناطيسي الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود..!
*كان (الهرر ) شابا عندما غزا بسحره واسلوبه الفريد ملاعب القارة الصفراء ، كان يافعا وعوده طريا وهو ينتزع شهادات الاعجاب من مدربين كانوا شهود عيان على ما قدمه من مستوى معجون بالسحر في (بنجلاديش) ، وكان أن تم وضعه على رأس لاعبي آسيا ، كأفضل مدافع ، والاكيد أن (الهرر) لم يقلد قيصر ألمانيا (فرانس بيكنباور) ، ولم يتأثر به على أساس ان (الهرر) مدرسة خاصة ولو تشابه بعض فصولها مع مدرسة القيصر الألماني ..!
*في ذلك الزمن لم يكن التلفزيون قد دخل كل البيوت ، ولم يكن قد واكب مباريات كأس العالم ، من هنا يتضح أن (الهرر) لم يشاهد (بيكنباور) كثيرا حتى ينتمي لمدرسته القيصرية ، وعندما اطلق عليه مدربه (علي محسن) لقب (القيصر) فلأن (الهرر) يؤدي أدواره الدفاعية و الهجومية بكفاءة عالية تقترب من كفاءة قيصر ألمانيا ونادي (بايرن ميونخ )..!
*برحيل آخر القياصرة المحترمين عن عالمنا الفاني ، يكون الابداع الحقيقي قد مات واقفا كأشجار السنديان ، وبرحيل قيصر الجنوب عن عالمنا وحياتنا يكون القدر قد أغلق مدرسة (الهرر) بالشمع الأحمر ، وبوداع النابغة الذهبي نكون قد طوينا سيرة فارس ترجل وقد خلف لنا دروسا في الحياة ، وداعا يا من اطعمتنا حلاوة كرة القدم ، كوجبة مليئة ببهاراتك التي يسيل لها اللعاب ، وداعا أيها القيصر الذي لم يتشبه بالأخرين ، وانفرد عن الغير بمدرسة لن تجف دروسها وموعظها أبدا ، وداعا للقيصر الجنوبي الذي مات واقفا كالطود الشامخ ، وآخر سطوري قول المؤمن الصابر الذي اذا أصابته مصيبة قال :انا لله وانا اليه راجعون .
.