من نحن | اتصل بنا | الأحد 18 مايو 2025 03:39 مساءً

الأخبار

في عدن... آدميون يسكنون القمامة!

عدن - عبد الخالق الحود الأربعاء 30 مارس 2016 01:44 صباحاً

خلف الأبنية الشّاهقة والفلل المحاطة بالأشجار، وبعيداً من طريق السيارات الفارهة، وبين الكثبان الرّملية في الصّحراء المترامية الأطراف، يعيش قوم يطلقون على أنفسهم "بدو عدن". ساقهم القحط وجدب الأرض وقلّة الكلأ والمرعى، لهجر مساكنهم وجمالهم وماشيتهم ومصدر عيشهم، وامتهان فرز النفايات الّتي أُلقيت على مشارف أرضهم، أو ما بقي منها ممّا تركه تجّار البقع وناهبو الأرض والنافذون الجدد.
فهم على سجيّتهم وفطرتهم، يبتكرون الحلول ممّا حولهم، ومقلب القمامة كان الأقرب إليهم، والملجأ السهل الوحيد الذي استوعبهم وأطفالهم ونساءهم دون أن يطالبهم بسنوات خبرة، أو شهاداتٍ لا يملكونها، لسببٍ بسيط أن أحداً منهم لم يلتحق بمدرسة أو حتى زاوية شيخ في الكتاتيب.
لن يصدّق أحدٌ أن هؤلاء الناس هم من سكان عدن الأقحاح. مئات السنين مرّت وهم على هذه الأرض أشبه بالهنود الحمر (سكان أميركا الأصليين). ما اقتحموا يوماً السياسة، ولا اختلطوا بغيرهم، حتّى من سكان البوادي القريبة، ولا تاقت أنفسهم لحياة الرفاه والمدنيّة ومباهجها. فقد اكتفوا بما تجود به أرضهم وإن كان قليلاً، واشتغلوا بالرّعي وتربية المواشي.
هناك على مرمى حجر من منشأة المصافي ومشروع الصّالح السكني، يعيش بدو عدن ممّن ضاقت عليهم الأرض عقب إجدابها، وتقطّعت بهم السبل وطحنهم الفقر، فأضحى لهم في مقلب القمامة موطنٌ ورزق.
وهنا يقتات ويشرب أكثر من "3000" آلاف شخصٍ تقريباً، غالبهم أطفال ونساء، من مخلّفات القمامة، ويلبسون مما تجود به براميلها.
ومع غياب كاملٍ للدولة ومنظّمات المجتمع المدني، يُلجِئ شظف العيش سكّان المقلب إلى الإستعانة بالمواد الغذائية المنتهية الصلاحية، لسدّ رمق أطفالهم وحاجياتهم الأساسية من الطّعام، وحتّى الحليب المعلّب. وحدها رعاية الله تحول بينهم والموت تسمّماً.
لن يصدّق أحد أن بدو عدن هم من سكّانها الأقحاح
من المدرسة إلى المقلب
على الرّغم من أنّه من القلائل الّذين نالوا حصّة من التعليم وإن كانت قصيرة، وجد الشّاب علي نفسه مرغماً على ارتياد مقلب القمامة المنثور على المساحات الصحراوية شمال مديرية البريقا، وكثيرون غيره، بينهم نساء وأطفال، تراهم منذ الصباح الباكر بانتظار سيارات المخلّفات المُجمّعة من كافة مديريات محافظة عدن، يُقبلون عليها بحثاً بداية عمّا يصلح لوجبة الفطور، ومن ثم الشّروع بجمع ما تصل إليه أياديهم من مخلّفات تصلح للبيع.

يقول علي بصوتٍ تملأه الثقة: "لا يمكنني الجلوس في البيت عاطلًا عقب طردي من صندوق النظافة في مديرية دار سعد وكثيرين غيري دون مستحقات، فوجدت في هذا العمل مصدر رزق شريف أسدّ بريعه جوع أسرتي المكوّنة من أربعة أخوة صغار ووالدي العاجز".
ويضيف: "على الرّغم من خطورة البحث بين أكوام القمامة الملوّثة في كثير من الأحيان بآلات الحلاقة الحادة، وكذا وجود نفايات لمواد منتهية الصلاحية، وأخرى قاتلة كحقن المستشفيات المستخدمة، والتي تنغرس في أقدامنا مرارًا، وحدها رعاية الله حافظة لنا من العدوى والتسمّم".
يجمع علي وعشرات الفتية - الّذين تتراوح أعمارهم بين العشرين وأدنى من ذلك – ما تصل اليه أيديهم من موادّ تصلح للتدوير، وهي في العادة قناني الماء الفارغة والمواد البلاستيكية عامة، في "شوالات" (جواني) ومن ثم بيعها لتجار الجملة ب 100 ريال للجونية الواحدة.
كلّ ما سبق يمكن استيعابه على مضضٍ بمعطيات واقع الحال، لكنّ المذهل أن يصل الحال بجيران مقلب القمامة المركزي، إلى استخدام زيت قلي الطعام المنتهي الصلاحية قبل أكثر من عام، غير مكترثين للتحذيرات المتكرّرة بشأن مضاعفة السّمّية في تلك المواد المعلّبة، التي انتهت صلاحيتها منذ سنوات.
الجدّة رضى تصلّي تيمّماً
هنا حيث لا ماء ولا كهرباء، حيث تستحيل رمال الصّحراء إلى جمر حارّ في فصل الصيف، وترتفع درجات الحرارة لتصل إلى مستويات مميتة، تؤدّي الجدة رضى الصلاة تيمّماً برمل الصحراء، لقلّة الماء الذي يُجلب على ظهر الحمير، وإن جادت عليها السماء بأكياس حنّاء، مسحت به جسدها وأولادها كوسيلة للوقاية من حرّ الصيف، ولا تنسى بين كل جملة وأخرى ترديد عبارات الثناء والحمد والشكر لله على نعمة الصحة وقوة البصر.
تطلب إلينا الجَدَّة رضا أن نساعدها في إيصال الماء إلى منزلها، ثم تبدأ حديثها إلينا، معربةً عن اعتقادها بأن "السلطة المحلّية لا تريد لهم الإستقرار والعيش في تلك الأرض"، ومتّهمةً إيّاها ب "الإستيلاء عليها لصرفها لاحقاً لمتنفذين". وهذا شعورٌ سائدٌ لدى غالبية السكان هنا، حيث يعزون قطع تزويدهم بالماء عن طريق (بوز الماء) إلى ما يسمّونها سياسة تطفيش لإجبارهم على ترك المكان.
"لا أحد يزورنا"
الحاج علي يرفع صوته أمام الكاميرا، مجيباً عن سؤال حول قيام مسؤولي السّلطة المحلية في عدن بزيارتهم، بالنفي المتكرّر: "لا..لا أحد زارنا أو ساعدنا نبا ماي، نشرب ونصلي".
مطالب بسيطة بإمكان كثير من المنظمات، وهي بالمئات في طول البلد وعرضه، ممن تعقد ورشها غير المجدية بآلاف الدولارات في فنادق فارهة، تلبيتها. كما بإمكان تلك الجمعيات الخيرية التي تتبنّى وتتسابق لبناء المساجد في وسط المدن، بناء مصلّى وتوصيل الماء إليه ليكون "صدقةً جاريةً" لعشرات السكان من بدو عدن، بعيداً عن أجندة السياسة ونصب لوحات التّفاخر بالصدقات.
يعاني بدو عدن نقصاً حادّاً في المياه
"ماشي مطر"
إمرأة في الخمسين من عمرها تتنفس البساطة، وابتسامةٌ رُسمت على محيّاها لا تزول، تنمّ عن رضا وراحة بال تلمسه في حديثها وحركاتها. أبت واحمرّ وجهها الأبيض خجلًا حين استأذنتها بالتصوير، وقالت بتلقائية، لا تتكلّفها، في إجابتها على سؤالي حول الأسباب الّتي دفعت بهم وأطفالهم إلى ترك منازلهم وأرضهم وإبلهم وأغنامهم وما يملكون والعيش بين النفايات: "المعيشة والفقر"، وزادت: "ماشي مطر"، إذ لم تجد السماء عليهم منذ سنوات، فيبس الزرع ونفقت قطعان الماشية والإبل، وما بقي منها رافقهم إلى مقلب القمامة.
أحمد يصرّ على مسح الصورة
لفت نظري بتردده في أخذ أكياس التمر التي تصدّق بها فاعل خير، وظلّ يراقب من بعيد، وبعد أن تفرّق أصدقاؤه أشرت اليه بالقدوم، وسألته في أيّ صفٍّ أنت؟ قال: "أنا لا أدرس، وكل الأطفال هنا لم يذهب أيّ منهم إلى مدرسة". نظرت إلى المكان الذي أقف فيه واكتفيت بالإجابة وعبثية السؤال.
عاد أحمد بعد تفكير طويل ليطلب مني، بأدب، أن أمسح الصورة التي التقطت له.
تسويق "الشوالات"
ناصر شاب يعمل في تسويق شوالات النفايات المفروزة. جاء مسرعاً إلى مكان السيارة التي كنا نستقلّها، يريد نصيبه من التمر. فسألته أين يبيعون ما يتم فرزه من الحديد والعلب الفارغة والبلاستيك وغيرها؟ فقال: "إنهم يذهبون بها إلى منطقة دار سعد أو الشيخ عثمان، لأن المصنع القريب من المقلب يدفع لهم في الكرتون 4 ريال يمني فقط"، وأضاف: "النّفايات التي تأتي من عدن تكون قد فرزت مرّتين من قبل عمال النظافة أنفسهم في المديريات، أو من قبل الباعة المتجولين الذين يمرّون على براميل القمامة ويأخذون ما فيها مما يمكن أن يُباع، والسّكان هنا كما ترون يستخدمون أدوات الحفر للبحث عنها وسط الركام، وهو عمل شاقٌّ وخطير في كثير من الأحيان، خاصة إذا كانت الحمولة منقولة من أحد المصانع التي تستخدم المواد الكيماوية والسامة في صناعتها، وقد تعرّض الكثير من السكان العاملين للأمراض، ووقعت قبل أشهر حالة وفاة نتيجة التعرّض لموادّ سامة".
وللقاصرات مكانهنّ
من بين العاملات في المقلب فتياتٌ لا تزيد أعمارهنّ عن الثامنة عشرة. وبرغم ماعلق في وجوههنّ من أتربة وأوساخ، ما استطاعت أن تخفي تلك السّحنات الضاربة في السمرة الذهبية، وظلّت مسحة الخجل سمةً تتزيّن بها نظراتهن. يتقدّمن لاستلام نصيبهنّ من التّمر وهنّ يتحاشين الكاميرا. كلما توجّهت العدسة نحوهن تفادَينها. وبرغم عددهنّ الكبير، فقد توزعن في سلاسة تنمّ عن أنفةٍ لم يطمسها العوز وضيق ذات اليد، الذي رمى بهم إلى مكبّ النفايات ليتّخذوه موطناً ومسكناً. 

 

.

 
المزيد في الأخبار
رئيس الوزراء يوجه بتشكيل لجنة للتحقق من الرسوم والضرائب المفروضة على المسافرين عبر مطار عدن   عدن / خاص   وجه رئيس مجلس الوزراء وزير المالية سالم صالح بن بريك،
المزيد ...
    أ.د مهدي دبان    عدن... ليست مجرد مدينة، بل روح ضاربة في جذور التاريخ، وحضارة تنفست عبر العصور، صنعتها أمواج البحر، وزخرفتها أيادي الشعوب التي مرت بها
المزيد ...
  عدن | خاص   شهد مدير أمن العاصمة عدن، اللواء الركن مطهر الشعيبي، اليوم، تخرج كتيبة التدخل السريع التابعة لقوات الطوارئ والدعم الأمني بمعسكر طارق بالعاصمة
المزيد ...
  بغداد  :    غادر فخامة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، ومعه عضوا المجلس عثمان مجلي، وفرج البحسني، العاصمة العراقية بغداد،
المزيد ...
 
 
أختيار المحرر
من التهام الطعام بسرعة إلى الإضافات الضارّة بالقهوة.. خبراء: 6 عادات صباحية تمنع إذابة دهون البطن
"جوجل" تحذّر: الذكاء الاصطناعي يمكنه "تدمير البشرية" في هذا التوقيت
العلماء يلقبونه بـ "قاتل المدن".. كويكب قد يصطدم بالقمر في هذا الموعد
القهوة والتوت والزيتون..7 أطعمة أساسية للحفاظ على الكبد
آخر الأخبار
الأكثر قراءة
مقالات
    تذكرت أبي، وتكدر خاطري وانسكبت الذكريات دفعة واحدة، كأنها ترفض أن تنسى أو تهمل. لم يكن أبي قلبا حانيا
    ما أصعب أن يُزج بأحلام الطلاب في قاعات امتحان تُسمى "وزارية"، بينما الواقع يقول  بأن الوزارة ذاتها
  يعيش المواطن والمجتمع اليمني في دوامة ومجموعة من المشاكل والأزمات الحياتية والاجتماعية، من غلاء الأسعار
  في انتظار استجابة المجد، ننتصب كأشجار مثقلة بالعمر والرجاء، نحدق في الأفق البعيد، حيث لا وعد يلوح ولا
  عدن بين الحمى والحُمى، مدينة يسلخها الحمى من كل جانب، و ينهشها المرض من الداخل، ويطوقها الإهمال من
اتبعنا على فيسبوك
جميع الحقوق محفوظة لـ [أنباء عدن-إخباري مستقل] © 2011 - 2025