أربعون سنبلة ليوم الأرض..

في هذا اليوم 30 آذار/مارس من عام 1976 انتفض الفلسطينيون داخل حدود الكيان الصهيوني الذي تشكل عام 1948 في هبّة كبرى بعد معاناة ثمانية وعشرين عاماً من محاولات التعامل مع الرضّة الكبرى التي شكّلها احتلال استيطانيّ أجنبيّ لمجتمع زراعيّ لا تعتبر الأرض وسيلة الإنتاج الأساسية فيه فحسب بل هي محور الحراكات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فيه، كما أنّها المركز الذي تدور حوله الثقافة العامّة للمجموعة البشرية فيه.
تعاطى المجتمع الفلسطيني (والعربيّ) مع بدايات الاستيطان اليهودي بآليات استيعاب قديمة مفترضا إياه موجة لمجموعة بشرية جديدة من الأقوام التي كانت تتقاطر على المنطقة العربية والتي اندمجت مع سكّانها وصنعت لوحة معقّدة من الإثنيات والأديان والثقافات، وكان من ضمنها المجموعة اليهودية – الفلسطينية السابقة على المشروع الصهيوني (اليشوف).
أصبح الصراع على امتلاك الأرض، شيئاً فشيئاً، العتلة التي بلورت الوعي السياسي الفلسطيني وحددت أسس المشروع الصهيوني في فلسطين في ترابطه مع المشروع الغربيّ وحلّه العنصري للمسألة اليهودية على حساب سكّان الأرض التاريخيين.
حاول الغرب وإسرائيل تصوير الصراع العربي والفلسطيني معهما دائماً كصراع بين الحداثة والرجعية حيث يتواجه الرأسمال المعولم بأركانه المتكاملة من دولة سياسية حديثة وجيش بترسانة نووية وأجهزة أمن تصدّر خبراتها للعالم كلّه، وجامعات وسينما وثقافة الخ… مع مجتمع عربيّ فلسطيني زراعيّ محافظ ومتديّن يتناقض مع اتجاه الثقافة البشرية العامّة ويتواجه، وجودياً، مع أسس الحاضر والمستقبل!
غير أنه لا الغرب ولا إسرائيل يستطيعان أن يفسّرا كيف تستقيم هذه السرديّة الحداثوية مع إشكاليتين مستمرّتين:
الأولى هي جوع الدولة العبريّة الوحشي لقضم المزيد والمزيد من الأرض الفلسطينية، الذي كانت بذرته (الكيبوتزات) زراعيّة بدورها، وهو ما يتنافى مع السردية المدنيّة الحديثة للدولة «الديمقراطية» المضادة للزراعة، والساخرة من تشبث «السكان المحليين» بالأرض، وهو الاتجاه الذي فكّك، بعد الحرب العالمية الثانية، أركان الكولونيالية العنصريّة، بحيث أصبحت حواضر مثل برلين وباريس ونيويورك مدنا أكثر يهوديّة من القدس، التي تزعم اسرائيل أنها عاصمتها التاريخية.
والثانية هي إصرار نخبة المشروع الصهيوني على أن إسرائيل هي دولة يهوديّة، وهو ما يعني أنها الدولة الوحيدة في العالم المشكّلة على أساس دينيّ، ما يفكك أسطورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق ويفضح كونها جهازا عنصريا، دينيا وعرقيا، واحتلالا استيطانيا، فلا يستقيم بعدها نقدها لأعدائها باعتبارهم متدينين رجعيين، أو إسلاميين إرهابيين.
يعيد يوم الأرض موضعة الصراع في مكانه الأول باعتباره دفاعاً عن جغرافيا وتاريخ وثقافة وعادات وسياسة يوميّة مقاومة لمشروع الاستيطان الأخير للعنصرية الدينية والعرقية الأوروبية بعد سقوط نموذج جنوب افريقيا.
يطالبنا هذا اليوم، أيضاً، كفلسطينيين وعرب، بإعادة قراءة تاريخنا الحديث على ضوء هذه الواقعة الهائلة ودلالاتها المعقّدة بحيث نسقط أصنام الأيديولوجيا الزائفة التي استلبتنا بمصطلحات الحداثة والتقدم وتكشّفت، في النهاية، عن وحش هائل لا يهدد أرضنا فحسب بل كذلك ديننا وثقافتنا وحضارتنا.
المشروع الصهيوني، في جذره، هو محاولة فاشلة في اقتلاع شجرة الحياة.
رأي القدس:
.