مرضى الفشل الكلوي في عدن.. دوامات وجع متتالية

عدن - شكري حسين:
كنت أدرك، وأنا أدلف بوابة مركز غسل الكلى بمستشفى الجمهورية التعليمي، بمحافظة عدن، جنوبي اليمن، أنني سأقف على مشاهد «أسى» عديدة، و«دوامات وجع» متتالية.. نساء وأطفال ومسنون، يعتصر الألم قلوبهم، وتتسرب المسرات من دواخلهم كما يتسرب الماء من بين الأصابع، لكنها مشيئة الله ولا راد لحكمه وقضائه.
الحمد لله على كل حال، ونسأل الله أن يعيينا ويصبرنا حتى نلقاه، بهذه الكلمات استهل خالد محمد غالب (55 عاماً) حديثه لصحيفة «الخليج»، وهو على كرسيه، في جلسة غسل معتادة، ويتابع: «أربع سنوات ونصف سنة، وأنا أتردد إلى هذا المكان، الذي يمثل لي ولمرضى الغسيل الكلوي كافة، حضناً دافئاً، لا بد من الارتماء فيه ثلاث مرات في الأسبوع، إذ يمثل لنا إكسير حياة، رغم ما نعانيه من غصص مؤلمة، ولحظات وجع لا متناهية».
تقول رئيسة مركز الغسيل بالمستشفى د. نبيهة با ماجد «نعمل جاهدين في التخفيف من معاناة مرضى الفشل الكلوي، رغم الظروف غير السوية التي تحيط بنا، في ظل الأوضاع التي تمر بها البلاد، وصور التضييق في الحصول على ما نرجوه ونتمناه في تحقيق جلسة غسل نموذجية». وتضيف باماجد: عاود المركز نشاطه، بعد شهر ونصف من طرد ميليشيات الحوثي والمخلوع صالح من عدن، كأول مركز صحي حكومي، يعاود عمله، نظراً للحاجة الماسة التي يمثلها بالنسبة لمرضى الفشل الكلوي، وما ترتب على إغلاقه من «آلآم»، ومشاكل جمة للعديد منهم، الذين وجدوا أنفسهم في لحظة زمنية قصيرة، بين رحى حربين، كليهما أشد من الأخرى، «ألم المرض، وألم الحرب»، فدعت الضرورة، إلى سرعة افتتاح المركز، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن غيب الموت 20 مريضاً خلال أشهر الحرب، خاصة من الذين لم يتمكنوا من مواصلة العلاج في باقي المراكز «مستشفى الصداقة، ومستشفى عبود العسكري»، نظراً للزحام الشديد، أو أولئك الذين لم يستطيعوا الهروب إلى محافظة حضرموت 620 كم، لمواصلة العلاج هناك.
على أحد الآسرة تتمدد فاطمة منصور أحمد (58 عاماً) تجري غسيلاً للكلى، ثلاث مرات كل أسبوع لمدة أربع ساعات، وهذا هو حالها منذ قرابة 9 سنين، تقول، «الحمد لله على كل حال، لا شيء ينقصنا، فالطاقم التمريضي في المركز لا يقصر معنا، فقط نتمنى تزويد المركز ببعض الأدوية الضرورية المساعدة على العلاج».
80 حالة يومياً
تقول رئيسة قسم الغسيل «نبيهة با ماجد»، نعاني من ضغط العمل وارتفاع عدد الحالات التي نستقبلها بشكل يومي واعتيادي، والبالغة 80 حالة، من مجموع 250 حالة كعدد ثابت، غير المترددين على المركز لمراجعة الطبيب أو الاستشارة، وهذه أمور تأثر سلباً في أدائنا وتفوق قدرتنا على المواصلة بنفس الوتيرة، إذ إن 15 عاملاً موزعين على 3 نوبات بواقع أن 5 من الممرضين لكل نوبة عدد غير كافٍ، كما أن عدم وجود كل المستلزمات الطبية المتعلقة بعملية الغسيل، كحقنة «الأبركس»، المساعدة على نسبة زيادة الدم، وعدم وجود الفيتامينات، يعيق من تقديمنا لجلسات غسل نموذجية.
بدا قائد صالح الردفاني (14 عاماً) شارداً، وهو يحلق بنظره في جدران العنبر الذي يحتويه مع عدد كبير من المرضى، سألته بعد أن سلمت عليه، فيما تفكر، قال: «لا شيء، فقلت له بعد أن شعرت أنه قد تخلص من لحظة الشرود هذه، من أي مكان أنت، فأجاب، من منطقة الحبيلين (180 كم إلى الشمال من عدن) يقول، السفر إلى عدن متعب وكلفة المواصلات مرتفعة، ولذلك اضطر أحياناً إلى المبيت مع والدي عند أحد الأقارب، أو انتظار أحد رجال الخير كي يقلنا معه في سيارته. أحسست من حديثه أن الألم يعتصر قلبه، والأسى قد استوطن أيام حياته، حتى وهو غير مدرك للكثير من أمور مرضه، ودعته مبتهلاً إلى الله أن يشمله، ومن هم حوله بفيض عونه، ومحاسن كرمه. يقول ماجد سيف محمد (50 عاماً) الحمد لله كل شي متوفر لنا، عدا بعض العلاجات التي ترهق كواهلنا، بحيث يحتاج الواحد منا مبلغ 20 ألف ريال يمني، قرابة 100$،على أقل تقدير لشراء بعض الأدوية، ناهيك عن أجور المواصلات ومعاناة التنقل ثلاث مرات في الأسبوع إلى المركز، وهي أمور ضاعفت من معاناتنا، ورفعت من تراجيديا وجعنا.
الألم ألمان.... والوجع ضعفان
منذ 1 سبتمبر/ أيلول 2015، بدأ مركز الغسيل، يستقبل المرضى، هكذا تقول رئيسة المركز «معاناة مرضى الغسيل الكلوي ليس كباقي المرضى، فهم قد أجبروا على الالتزام والمواظبة على العلاج بشكل دائم ومستمر، لذلك سارعت الجهات المسؤولة في مكتب الصحة بالمحافظة، وإدارة المستشفى، إلى سرعة تأهيل المركز ليغدو جاهزاً لاستقبال الحالات المرضية، عقب طرد الميليشيات من عدن بفترة وجيزة، لكن الظروف الصعبة وحالة الفقر التي تعاني منها أغلبية الأسر، جعل الألم ألمين والمأساة ضعفين، فهناك أسرة لم تستطع أن تنقل أبناءها المرضى إلى المركز، إما بسبب التكلفة المالية، أو صعوبة التنقل من مكان لآخر، في ظل ارتفاع أجرة المواصلات وغلاء المعيشة التي تعصف بحياة معظم الناس في اليمن.
بين يدي رجال الخير
مما تقدم يستدعي تفاعل كل القطاعات الحكومية وغير الحكومية، مع مرضى الفشل الكلوي، من خلال وضع آلية عمل لباقي المراكز الموجودة في عدن، «مركز عبود العسكري، وطيبة الخيري، ومستشفى الصداقة»، بغية التخفيف من الضغط على مركز الغسيل التابع لمستشفى الجمهورية التعليمي، والعمل على توفير مخزون استراتيجي خاص بأدوية المرضى، وعدم تكرار مأساة الحرب الأخيرة، وتوفير الأدوية المهمة، كما أنه من المهم أن تتفاعل المنظمات الخيرية ورجال الأعمال مع المرضى، وتوفير المواصلات لغير القادرين على تحمل نفقات التنقل والسفر إلى عدن. وهي دعوة كذلك لرجال المال والأعمال، والجمعيات الخيرية، ومركز الهلال الأحمر الإماراتي الذي كان له الدور الفاعل والأساسي في تزويد المركز بالمستلزمات الضرورية لمرضى الغسيل، خلال الفترة الماضية، وتبنى مشروع سكن داخلي للمرضى القادمين من أماكن بعيدة، باعتبار أن الكلفة الباهظة أثناء التردد على المركز ذهاباً وإياباً قد ضاعف من حجم المأساة، وأثر سلباً في حالة المريض المحتاج أصلاً إلى العيش والشعور بالهدوء بعيداً عن ضغوط الحياة المختلفة.
.