في "شارع المطاعم" بصنعاء تنتهي خلافات اليمنيين ويحضر الشاي العدني والخبز التعزي
في فترات ما بعد الحروب والنزاعات الداخلية، تنتشر الطائفية والمناطقية بين أبناء الوطن الواحد، لا سيما في اليمن التي توحدت بين شمال وجنوب، ويصبح من الصعب على أبناء المجتمع تقبل الرأي والرأي الآخر.
في اليمن، تصاعدت مستويات المناطقية والطائفية بشكل غير مسبوق بين المواطنين الذين ينتمون إلى المحافظات الجنوبية والشمالية عقب الحرب التي شنها الحوثيون والقوات الموالية للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح على محافظة عدن وبقية المحافظات الجنوبية مطلع العام الماضي.
وبالرغم من ذلك، يبقى هناك استثناء يميز بعض الأماكن التي تجمع المواطنين اليمنيين على اختلاف انتماءاتهم المناطقية والسياسية، وتزيل الشحناء التي تسببها الطائفية بينهم.
ومن ضمن تلك الأماكن وأهمها “شارع المطاعم” الواقع في منطقة التحرير وسط العاصمة اليمنية صنعاء، حيث لا يزال هذا المكان، الذي يشتهر بالشاي “العدني” والخبز “التعزي” ومختلف المأكولات الشعبية، وجهة للعديد من المواطنين الذين ينتمون إلى شمال اليمن وجنوبه على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية.
شهاب المقطري، طالب جامعي، يجتمع مع أصدقائه الذين ينتمون إلى محافظات يمنية مختلفة في شارع المطاعم ويشربون سويا الشاي العدني ويأكلون الخبز التعزي إلى جانب البرعي الشمالي (نوع من البقوليات المشهورة في صنعاء).
ويقول المقطري “يجمع هذا الشارع أشهر الأكلات اليمنية والمواطنين من مختلف المحافظات. أشعر وكأن هذا الشارع هو بيتي الثاني كوني أحس فيه بالراحة، ولا أجد فيه البغضاء والشحناء الموجودة في بقية الأماكن. هذا المكان يشعرنا بالأصالة ويعيدنا لزمن جميل وبأننا يمنيون لا شماليون ولا جنوبيون”.
ويرى رامي نجيب، موظف قطاع خاص من محافظة عدن جنوبي اليمن، أن المناطقية الموجودة حاليا بين اليمنيين على اختلاف مناطقهم منبوذة في شارع المطاعم بسبب بساطة المواطنين الذين يقصدون المكان.
ويقول “صلتي دائمة بشارع المطاعم حيث أبدأ يومي في الصباح الباكر بالذهاب إلى هناك لتناول طعام الإفطار وشرب الشاي مع أصدقائي من محافظة ذمار وتعز والحديدة، والحديث عن المستجدات والأماكن التي يطالها الرصاص خلال ساعات الليل ومن ثم أتوجه إلى عملي. وفي نهاية الأسبوع التقي بأصدقائي في نفس المكان بعد العصر”.
وعلى مر السنين، أطلقت على هذا المكان مسميات مختلفة مثل “شارع المواصلات” و”شارع النزيلي”، إلا أن الاسم الأكثر شهرة هو “شارع المطاعم” نتيجة لكثرة المطاعم والمقاهي الشعبية الموجودة فيه.
وشارع المطاعم هو أحد أقدم الشوارع في العاصمة صنعاء، حيث يجد فيه العديد من المواطنين متنفسا لنسيان هموم ومشاغل الحرب ولقاء الأصدقاء لمناقشة مواضيع سياسية واقتصادية وأمنية ورياضية، ويجتمع فيه الطلاب لمناقشة مشاكل الدراسة. وفي هذا المكان تتجسد كل الرؤى المختلفة للسياسيين والأدباء والصحافيين والرياضيين، وكذا العاطلين عن العمل.
على الطاولات المتراصة بعناية أمام المقاهي، يجلس أناس يرتدون ملابس تقليدية مثل الثوب والجنبية، وآخرين يرتدون ملابس رسمية يتجاذبون أطراف الحديث ويدلي كل شخص برأية دون أي حساسية أو خوف.
حركة دؤوبة للأشخاص والعاملين في المقاهي والمطاعم في الشارع الذي تفوح منه رائحة المأكولات الشعبية والشاي العدني (شاي الحليب) ذائع الصيت، وكأنه عالم منعزل عما تشهده البلاد من مواجهات مسلحة وغارات جوية وتوتر أمني.
يجلس أيمن الحدي، طالب جامعي، على إحدى الطاولات مع خمسة من أصدقائه الذين ينتمون إلى محافظات يمنية مختلفة يأكلون الخبز ويشربون الشاي ويناقشون مشروع التخرج من قسم الهندسة المعمارية بكلية الهندسة.
يقول أيمن “عندما نأتي إلى هنا نشعر بالتغيير ونخلع عنا ضغوط الحياة التي فرضتها الحرب والوضع الاقتصادي الراهن للبلاد”. وبجانب أيمن، يجلس زميله حسين الوريث وبقية الأصدقاء يضحكون ويطلقون النكات على بعضهم البعض بهدف خلق جو من المرح، غير آبهين باختلافاتهم السياسية والحزبية.
ويقول الوريث “من أجل قضاء وقت جميل بعيدا عن الطائفية نأتي إلى شارع المطاعم، وقد اتفقنا على أن كل شخص منا يقول نكتة على الآخر دون أي حساسية”.
في الطاولة المجاورة، يجلس فادي الخزان، مع ثلاثة من أصدقائه يشربون الشاي ويناقشون الوضع الأمني والسياسي في البلاد ووضع الضباط والجنود في المحافظات الأخرى.
ويقول الخزان إنهم يأتون إلى المكان للتخلص من ضغوط العمل، مضيفا “آتي إلى هنا والتقي بزملائي وأعرف منهم الأخبار، ونتناقش في قضايانا الخاصة والعامة. لا نختلف مع بعضنا مهما كانت وجهة نظر كل منا، فنحن نتناقش ونشرب الشاي ثم نغادر بقلوب صافية”.
ويرى خبراء علم الاجتماع أن الناس يميلون إلى التجمع في المكان الذي يشعرون فيه بالراحة والبساطة والبعد عن التكلف والمناطقية.
ويقول أخصائي علم الاجتماع عبدالعزيز المداني إن الناس يتجمعون بكثرة خلال فترات الحروب في الأماكن البسيطة، حيث يستطيعون التنفيس عما بداخلهم من ضغوط نفسية.
ويضيف “على الرغم من وجود أشخاص في نفس المكان يحملون أفكارا ومعتقدات مختلفة، إلا أنهم لا يتجادلون في نقاط الاختلاف بل يجلسون ويضحكون ويغادرون دون خصومات”.
ويتمنى المداني أن ينعكس التقاء الناس في مثل هذه الأماكن على بقية الأماكن، ويوضح “لربما تغيرت الظروف والمعاملات إذا طبق هؤلاء الأشخاص طرق تفكيرهم ومعاملاتهم بنفس الكيفية التي يتعاملون بها في شارع المطاعم”.
.