الجمعة 09 مايو 2025 01:23 مساءً
سأعيش في جلباب أبي
تذكرت أبي، وتكدر خاطري وانسكبت الذكريات دفعة واحدة، كأنها ترفض أن تنسى أو تهمل. لم يكن أبي قلبا حانيا فقط، بل كان حصنا يحيطنا بالأمان، سياجا نطمئن كلما احتمينا خلفه، جلبابا نعيش فيه. رغم أنه لم يعرف القراءة والكتابة، فقد امتلك من علوم الحياة وحكمة التجارب ما يجعل العارفين يصمتون أمام حديثه.
كان نبعا لا ينضب من الخير، يحب الناس جميعا، ويسعى لبث البشاشة والابتسامة حتى في وجه من ظلمه أو قسى عليه. لم يكن يوما صاحب خصومة، ولا عرف العداء طريقا إلى قلبه. طيبته لم تكن صفة عابرة، بل كانت جوهره الذي ظل يرافقه، رمزا لنا، وروحا لا تفارق مجالسنا، وفخرا نعتز به في كل حين.
ما زلت أتذكر كلماته التي تسكن قلبي:
"يا بني، ليست كل النزالات يجب أن تخرج منها منتصرا، هناك معارك تكون فيها خاسرا، لكنك تفوز برضا الله."
سألته كيف ذاك يا أبي؟ فقال:
"عندما تخفض جناح الذل لوالديك أو أقاربك أو من يكبرك أو لتصل رحما أو لتحافظ على قرابة أو صداقة أو مخوة، فأنت تدوس على كرامتك لتجبر خواطرهم، والله يرى ذلك، فيرفعك درجات. التنازل هنا ليس ضعفًا، بل رفعة عند الله."
كلماته ما زالت تتردد في وجداني، تنير دربي في كل موقف، وتعلمني أن الاحترام والتواضع ليسا مجرد سلوك، بل عبادة.
أبي كان يتيما، نشأ دون والد، واحتضنته الحياة بقسوتها، لكنه لم يسمح لها أن تزرع القسوة فيه. ظل الأحن، الأقرب، والأطيب. لم أر في وجهه يوما زعلا، بل كان راضيا دوما، محتسبا لكل ما أصابه.
رحمك الله يا أبي، يا من كنت لنا وطنا وسكينة، ومهما ابتعد الزمن، ستظلّ صورتك في قلوبنا لا تغيب، وستبقى كلماتك نورا يهدينا في كل منعطف.
اللهم ارحم أبي رحمة واسعة، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، واملأه نورا ورضوانا، واجزه عنا خير الجزاء، كما أحسن تربيتنا وأحبنا من أعماقه. واجعل كل دعاء له رفعة، وكل صدقة عنه نورا، وكل ذكر له رحمة. آمين.