في اليمن... مصانع طحن الأسماك تهدّد الحياة البحرية وأرزاق الصيادين
يميل علي قاسم (51 سنة) مع ميلان زورقه المستسلم للموج في ساحل قصيعر بمحافظة حضرموت شرق اليمن، وفي ملامح وجهه أثر خيبة يوم جديد، عاد في نهايته مع رفاقه من جولة البحر دون أن يتمكنوا من اصطياد هدفهم الرئيس، التونة.
هذه السمكة المهاجرة من المحيط إلى المياه الإقليمية الشرقية اليمنية، غذاؤها الرئيسي هو أسماك السردين والجدب، ونظراً للإفراط في صيدهما لصالح مصانع طحن السمك، تقل أعدادها، وبالتالي يواجه صيادوها في حضرموت والمهرة، تحديات كبيرة، ونقصاً مفضياً للفقر في مداخيلهم.
خضنا اليوم كما نفعل دائماً نحو مئة كيلومتر في البحر، لكننا عدنا بدون صيد.
يساعد علي رفيقاً له في إنزال عدة الصيد، ثم يقول لرصيف22 وهو يضع يديه على صدره: "خضنا اليوم كما نفعل دائماً نحو مئة كيلومتر في البحر، من هنا إلى طرف المهرة، لكننا عدنا بدون صيد!".
يعزو ذلك إلى ما يصفه بالصيد غير المشروع للسردين والجدب وأنواع أخرى، مما أدى إلى "اختفاء بعضها تماماً، وارتفاع كبير في أسعار الأسماك، فضلاً عن التهديد بانهيار قطاع صيد التونة".
ودعا المؤسسات المعنية إلى التنسيق فيما بينها لحل المشكلة وفرض رقابة جدية وصارمة، والصيادين إلى التشاور لإيجاد حلول عاجلة ضماناً لحماية مصالحهم واستمرار عملهم الذي لا يعرفون غيره، وغالبيتهم توارثوه عن آبائهم جيلاً بعد جيل.
استنزاف
صبري لجرب، مدير هيئة علوم البحار بحضرموت، يقول لرصيف22 إن الاستنزاف المفرط للموارد السمكية يؤثر على البيئة البحرية والتوازن البيئي. ويضيف: "أي اضطراب في أحد عناصر البيئة البحرية يؤدي إلى اضطراب في المنظومة السمكية والحياة البحرية ككل".
ويذكر أن في منطقة خليج عدن والبحر العربي تستخدم ما يسميها "الوسائل غير المستدامة في صيد الأسماك"، مما يؤثر على المخزون والإنتاجية، دون تحقيق توازن بين الصيد وتجدد الموارد، مما يؤدي إلى عدم استدامة الصيد.مصانع طحن الأسماك في اليمن تهدّد الحياة البحرية وأرزاق الصيادين
ويلفت إلى أن الأسماك العلفية الصغيرة مثل السردين والجدب تعد جزءاً أساسياً في السلسلة الغذائية للحياة البحرية، والكثير من الأسماك الأكبر تقتات عليها، وصيدها بنحو جائز يقلل كمياتها ويتسبب بخلل في التوازن البيئي. ويدعو إلى "ضرورة إجراء بحوث لتقييم مخزون الأسماك، ومعرفة مواقعها لتجنب الاستنزاف وحماية النظام البيئي".
مصانع طحن الأسماك
انتشار مصانع طحن الأسماك في محافظات المهرة وحضرموت وعدن، التي تستلم كافة أنواع الأسماك ولا سيما الصغيرة منها أو الأنواع المحرم اصطيادها دولياً، يقود الصيادين إلى اتباع وسائل صيد جائرة أو الإفراط في الصيد لجمع أكبر قدر ممكن من الأسماك، وهذا ما يؤدي في ظل غياب الرقابة الرسمية إلى تهديد للثروة السمكية.
نهاية العام 2022، أصدرت الهيئة العامة للمصائد السمكية في البحر العربي، مذكرة بمنع صيد السردين والجدب، تحت طائلة مصادرة إنتاج المخالف والتحفظ على معداته، إلا أن المشكلة تكمن في عدم الالتزام بها من قبل الصيادين، ولم تسع هيئات المصايد في المحافظات إلى تنفيذها، لعدم وجود آلية لمتابعة تنفيذ مثل هذه القرارات، التي"تجعل الأمور أكثر سوءاً" على حد قول أحد الصيادين من المصينعة في محافظة حضرموت، وطلب عدم ذكر أسمه.
ويؤكد الصياد لرصيف22 بأنها "قرارات وتوجيهات تبقى حبيسة الأدراج". ويشير إلى أن مصانع طحن الأسماك ومخلفاتها، تطحن أنواعاً يحظر صطيادها عالمياً مثل الشروع والشردوان، ويوضح سبب حظر اصطيادها: "عندما تبيض هذه الأسماك يموت نصفها، والنصف الآخر يبقى على قيد الحياة. وعند اصطيادها تؤخذ الحية منها".
"كل ما في البحر يذهب للطحن!"، يقول الصياد بشيء من الأستياء، ويواصل حديثه: "البعض يستخدم شباك التحليق التي تسمى الحوي، وهي ممنوعة لأنها تسحب كميات كبيرة جداً في في كل مرة، والبعض الآخر يصطادون أنوعاً سامة من الأسماك، كان يتم تجنبها سابقاً، لكنها اليوم تطحن وتستخرج مواد معينة منها وتصدر إلى الخارج".
صياد سمك آخر من سيحوت في محافطة المهرة، طلب أيضاً عدم ذكر أسمه، يقول إن البعض اصطادوا خلال الأشهر الست الأخيرة ما يعادل حمولة عشرين قارب أي نحو ستين طناً يومياً، بهدف التوريد للمصانع.
ويستدرك: "المصانع التي افتتحت دون تراخيص لطحن الاسماك واستخراج الزيت منها للتصدير، دفعت بعض الصيادين إلى استخدام أدوات محظورة دولياً في صيد الأسماك وجرفها، للحصول على أكبر قدر ممكن من العوائد المالية".
انتشار مصانع طحن الأسماك في محافظات المهرة وحضرموت وعدن، التي تستلم كافة أنواع الأسماك ولا سيما الصغيرة منها أو الأنواع المحرم اصطيادها دولياً، يقود الصيادين إلى اتباع وسائل صيد جائرة أو الإفراط في الصيد لجمع أكبر قدر ممكن من الأسماك
إجراءات غير ملزمة
لتدارك المشكلة، أصدرت هيئة المصائد في حضرموت، مذكرة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، منعت المصانع بموجبها من استلام أسماك السردين والجدب وحظرت طحنها. وكان قد صدر قبلها قرار من وزارة الزراعة والري والثروة السمكية في شباط/ فبراير 2023 بحظر تصدير جميع أنواع الأسماك والكائنات المائية الحية الطازجة خارج حدود الجمهورية اليمنية.
وينفي رئيس هيئة المصائد في حضرموت يسلم سعيد بابلغون لرصيف22 قيام المصانع المتهمة بالتسبب في الإفراط بصيد الأسماك، ويقول بأنها تتعامل فقط مع مخلفات الأسماك. غير أن مصدراً في الهيئة ذاتها، يذكر بأن المصانع هذه تطحن بالفعل كميات كبيرة من الأسماك، وليس مخلفاتها فحسب، ويشير إلى أن 70% من الأسماك التي تستوردها اليمن مصدرها الصومال بما فيها التونة، وقليلة هي الأسماك التي تصطاد في الوقت الراهن من المياه الإقليمية مقارنة بالسابق.
ويؤكد بأن قلة وجود أسماك التونة مرده بالفعل قلة السردين الذي يفترض تركزه في مياه شرقي اليمن، يقول بأن أصحاب مصانع طحن الأسماك يدفعون مبالغ كبيرة لشراء السردين والجدب من الصيادين. ويبين بأن هذه المصانع مرخصة من هيئة المصائد على أساس أنها مصانع طحن مخلفات للأسماك، "لكنها للأسف مصانع أسماك يستهلكها الناس".مصانع طحن الأسماك في اليمن تهدّد الحياة البحرية وأرزاق الصيادين
ويقدر الكميات التي تطحن يوميا بنحو 400 طن، لاستخراج مسحوق السمك و زيت الأسماك، وهي تركز على التعامل مع أسماك السردين والجدب، وتصدّر إنتاجها للخارج بأسعار باهظة جداً". ويعدد أسماء بعض من هذه المصانع، مثل شركة شبه الجزيرة في نشطون، وشركة النورس في قشن، وشركة بروتين في الغيظة، وشركة بن سدون في سيحوت، وشركة أوشنيز في الشحر.
مخاطر كبيرة
تقول لرصيف22 رئيسة الهيئة العامة لأبحاث علوم البحار والأحياء المائية في عدن الدكتورة هناء رشيد أحمد إن مصانع الطحن تدمر الثروة السمكية وسلاسل الإمداد للمخزون السمكي.
مصانع الطحن تدمر الثروة السمكية وسلاسل الإمداد للمخزون السمكي.
وتحذر من توجه القطاع الخاص للاستثمار في إنشاء مصانع الطحن، دون تخطيط مسبق لاستدامة عمل هذه المصانع، خاصة أن "الطاقة التشغيلية للمصانع كبيرة، وهنالك تخوف من إجهاد المصائد السمكية وتدافع الصيادين لاصطياد الأسماك صغيرة الحجم مما يقضي على المخزون السمكي، بهدف تغطية الطاقة التشغيلية لمصانع الطحن"، وتعتقد بأن الجدوى الاقتصادية و دراسة الأثر البيئي لإنشاء مثل هكذا مصانع، قد تكون غائبة.
وتتساءل: "من يمنح رخص إنشاء المصانع؟ في السنوات السابقة كان هناك تخطيط بإنشاء وحدات صغيرة لطحن نفايات الأسماك بطاقة تتراوح من 3 إلى 5 طن لكل وحدة، وهي الطريقة السليمة لمعالجة النفايات والاستفادة منها"، وتدعو الجهات المعنية في بلادها للقيام بما فعلته السنغال قبل سنوات، حين أوقفت عمل مصانع طحن الأسماك، وتجد أن ذلك أمر مهم للغاية من أجل المصلحة العامة.
وكانت منظمة الأمم المتحدة قد أكدت في وقت سابق على أن 90% من العاملين في مجال الصيد بالسنغال، عانوا من تدهور في عملهم الذي كان على وشك الانهيار التام بسبب مصانع طحن الأسماك. ونشرت جهات معنية مثل الحملات البحرية لمنظمة السلام الأخضر في إفريقيا، بيانات ذكرت فيها أن تسع مصانع لطحن الأسماك في السنغال استنزفت الثروة السمكية فيها، وعندما استشعر السنغاليون الكارثة خرج الكثير منهم مع ممثلي منظمات غير حكومية لممارسة الضغط من أجل وقف أعمال تلك المصانع ونجحوا في ذلك، وهي متوقفة عن العمل في الوقت الراهن.
ويحذر بدوره أحمد عبد الله البهيشي، وهو باحث واختصاصي في المصائد السمكية، من أن هنالك أنواعاً من الأسماك معرضة لخطر الانقراض بسبب صيدها الجائر، فضلاً عن "التأثير السلبي على السلسلة الغذائية البحرية وتدهور البيئة البحرية، مما ينعكس سلباً على الاقتصاد المحلي للمجتمعات التي تعتمد على الصيد كمصدر رئيسي للدخل".
الطاقة التشغيلية للمصانع كبيرة، وهنالك تخوف من إجهاد المصائد السمكية وتدافع الصيادين لاصطياد الأسماك صغيرة الحجم مما يقضي على المخزون السمكي، ويهدد البيئة البحرية والتنوع البيولوجي
ويقول رصيف22 إن في الوسع تدارك ذلك من خلال تفعيل القوانين التي تنظم الصيد، بتحديد الكميات والأنواع الجائز صيدها، وفرض عقوبات رادعة على المخالفين.
لكن الصياد عبد السلام الغثنيني من المصينعة في محافظة حضرموت، يقول إن "وزارة الثروة السمكية وهيئة المصايد تتجاهلان المشكلة، والهم الأوحد لرؤساء الجمعيات هو الإنتاج والضرائب، ويتلقى مراقبو الثروة ومسؤولو الدولة مبالغ مالية ضخمة عن كل إنتاج"، على حد تعبيره.
ويضيف: "الأسماك تباد بنحو وحشي بواسطة شباك الحوي، التي تتكون من عدة طبقات وتحتوي على فراغات بحجم العين البشرية، وتعتبر فعالة في اصطياد الأسماك بكميات كبيرة بغض النظر عن أحجامها أو فترة تكاثرها، ما يجعلها من الأدوات المحرمة دولياً، وأحياناً ترمى بعض الأسماك الصغيرة التي تُصطاد بهذه الطريقة في عرض البحر، حيث تتعفن وتسبب تلوثاً وتهديداً للحياة البحرية".
غن : رصيف22
.