الخميس 28 يونيو 2018 11:10 صباحاً
المحروسة
قد لايكون زال مني المرض.ولكني اصبحت اكثر قدرة على احتماله، والتعايش معه، وربما قهر تنمُّره الذي كنت اشعر بتطاوله علي.
شعور اعتراني بمجرد ان وطئت قدماي ارض مصر الحبيبة. ومع اولى خطوات مغادرتي مطارها في اتجاه نيلها ومحافظاتها ومدنها واحيائها القديمة .
بشر راكبون وراجلون تحت وفوق شبكة من الجسور العملاقة.. بشر من مختلف ارجاء وعواصم العالم يمضون كلٌّ في اتجاه حاملين في رؤوسهم وافئدتهم وخطاهم ومفكرات يومياتهم واسئلتهم رسوم واسماء معالم وتاريخ وجهات تنضح جميعها بالاشراق والاستبشار والتمتع من اقصى البلاد الى اقصاها.
شوارع وطرق ومكاتب ومتاحف وحدائق.. بشر ينهضون كل الوقت قاطعين المسافات على الحافلات وتاكسيات الاجرة وفي باطن المترو والقطارات وعلى الاقدام، يتحركون بحيوية ونشاط وسط محيط خال تماما من مظاهر التسلح بمختلف اشكاله وتجلياته.. محيط لاتسمع فيه لغو رشاشات ولا مفرقعات ولا اغتيالات، ولا مسميات وافعالا لمليشيات وانصار واتباع لجهات ضد جهات..محيط لاتجوب فيه الاطقم ومصفحات الحراسات والوجاهات.. ولا تتزاحم فيه عصابات الاغتصاب والنهب وتصفية الحسابات، ولا وجود فيها لتحالفات او حوثيات .
فقط تلاوات واغان ومواكب اعراس تقطع الشوارع بالزغاريد والاغنيات والتماعات اضواء كاميرات توثق مرحبة بكل الوجوه.
حتى انا ومثلي الكثيرون القادمون من اليمن ممن «سَخَت» لان تعرضنا بيئتنا لمقادير الشتات والفرقة والآفات الممرضات والتعرض لاصابات العشوائيات والعصبيات وبواعث المصادمات والمواجهات والضربات الراجعات، ولم «تسخى» بالمقابل بأن توفر لنا او تحمل الينا ولو اليسير من سبل الاستشفاء والهجوع واسترجاع الانفاس..
حتى نحن الذين رمتنا الحياة فوق هذا وذاك بأسوأ ما فيها من فوات، وعلل قاتلات، ممن نتزاحم طوال ساعات الليل والنهار على ابواب العيادات والمستشفيات.
نعم حتى نحن الذين قدمنا الى ارض خوفو وخفرع وابو الهول وطه حسين والعقاد لا نحمل من وسخ الدنيا غير الفتات، لم يعوزنا الوقت الذي نجهد اقدامنا بالتنقل خلاله وألسنتنا بالسؤال عن مكان طبيب ما او موقع مستشفى خيري او شبه مجاني، لان نفرح ونتنزه مستحثين الزمن ليقلنا من حالة الى اخرى ولينقلنا من موعد لزيارة معلم او متحف او شارع نجتمع فيه مع بعضنا نتبادل الضحكات والذكريات، نقهقه ونتواعد من جديد.
لا يمنعنا ألم في القلب او المفاصل، ولا عطب في الكلى او ارتفاع في ضغط الدم، ولا هبوط حاد فيه من ان نجاري ارواحنا التي باتت تواقة لان تتمسك بالحياة وتدعونا لان نلتحق بمباهجها والتجول واكتساب قدر مانستطيع من عطاياها.
فكلما ضربنا موعدا مع طبيب، اقتطعنا وقتا قبله او بعده للذهاب في رحلة على النيل لاكتشاف بعض من ملامح ارض مصر نتأمل مبانيها القديمة في الدقي والسيدة زينب او العجوزة، ونرتحل مع تناغم اندماجها مع مبانيها العملاقة الحديثة ننسحب الى ظل شجرة او بهو حانوت او بطن متجر نزجي اوقاتنا بمزيد من الرضى .
فالمسافات بيننا وبين رحلاتنا هذه وبينها وبين ما أتينا نقصده من تطبب تبقى دائما غنية بما يثير لهفتنا واهتمامنا للتشبث بالحياة، بعد ان كنا قد ارغمنا على عدم التفكير بها.