كان زيد الراوي وكان البطل!
كانت قصةً للحياة وملحمةً للروح تلك التي كتبها زيد مطيع دماج عبر خمسة عشر عاماً، من آلام الجسد وآمال الروح.
كانت تلك السنوات قصته الأخيرة، وإبداعه الفذ والفريد. وكان زيدٌ فـيها الراوي وكان البطل. ولم يكن ثمة بطل آخر سواه فـي هذه الملحمة الإنسانية الباهرة التي تروي – لجيلنا اليائس– قصة الأمل، ولأيامنا البائسة أناشيد القوة والإرادة.
وعندما كان الجسد يضعف كانت الروح تأتلق، والرؤية تشف، ودوماً كانت الحكمة حاضرةً، ورفـيف صفائه ملء المكان. وكانت معالم هذه الروح الكبيرة تنضح بقيم الصداقة، والمحبة، والسمو.
كانت الصداقة إكسير حياته السّريّ، ودواءه الدائم، وإذا كان هناك مفتاح لهذه الشخصية الودودة المتأملة الصامتة، فإن الصداقة مفتاحها، فهي لديه مقدسة قداسة الوفاء الجميل. كان يتألم بصمت حين يسمع كلمة جارحة فـي صديق أو عزيز، وما يلبث أن يعبّر – ولو بعد ساعات – عن ألمه، كأنه كان مسؤولاً عن شملٍ يجب ألاّ يتبدد! ولم يكن أيٌّ منّا يستطيع أن يباري زيداً فـي هذه الميزة الخاصة، وأغلب الظن أن أحداً لن يستطيع!
وإذا كانت الصداقة مفتاح هذه الشخصية فإن المحبة بابها. محبة الناس والأرض. والصداقة والمحبة توأم. وتتجلّى محبة زيد للناس فـي شغفه الدائم – حياةً وإبداعاً– بتفاصيل حياة البسطاء فـي المدينة والريف، وكذلك شغفه بالنكهة الخاصة للمدن والأسواق.
لقد أحب زيدٌ وطنه وشعبه حتى العشق. وكان حتى آخر لحظة فـي حياته وفـياً للقيم التي نذر نفسه من أجلها، وهي تلك القيم التي تمس الناس مباشرة، وتمس حياتهم، وآلامهم وآمالهم. كان زيدٌ معجوناً بتلك الآلام والآمال.
كان يتنفس أنينهم وهم يصعدون الجبال الوعرة حفاةً مشاةً، وغناءهم وأهازيجهم وهم ينحدرون صوب قراهم المسكونة بالصمت، المغسولة بالدمع والأحزان. لم يتنكر يوماً لعالمه – ريفاً ومدينة – ولم يأبه يوماً لمغريات الخروج عن جلده، كما فعل ويفعل الكثيرون من محترفـي السياسة والثقافة. كان مهموماً بالإنسان البسيط، بأحواله، وآلامه، وآماله وأحلامه.
كان زيدٌ مُترعاً حتى الثمالة بأغاني الرعاة، ورائحة الورد البلدي فـي باب اليمن، وحيرة فتاة صغيرة لم تَبِعْ خبزها فـي باب السبح. كان يتأوّه لتأوهات المساكين والمظلومين، ويحزن لأحزان الجبال فـي مواسم الجدب وامتناع المطر.
ولعلّ مشهد الوداع فـي قريته السامقة خير شاهد على محبته للناس ومحبة الناس له . وفاءاً بوفاء. كان ذلك اليوم– بحق– يوم الوفاء الكبير. وفاء الناس الذين أحبهم زيد، وتمثَّلهم فـي حياته وإبداعه. أُلُوفٌ من المشيعين ضاقت بهم جوانب الجبال المحيطة وشعابها. الوجوه التي أحبّها، والعيون التي من أجلها ذرف ماء قلبه.
هاهم أبطال قصصه يملؤون الجبال والسهول. أتوا من كل حدبٍ وصوب يشيّعون الفتى الجميل، فتى أحلامهم وصوت آمالهم.
كنا نصعد بالجثمان صامتين. هذا هو زيد .. صعودٌ فـي الحياة وفـي الممات. أيّ مرتقى اخترت يا زيد! وفطنتُ متذكراً لثالث معالم هذه الروح الرائعة. الصداقة، المحبة، .. والسمو.
فـي حياته كما فـي مماته، أحب دائماً نسمة الهواء النقية خاصة على قمم الجبال. من عَلٍ يُطل متسامياً. تلك كانت سجيته.
هاهو أخيراً يطلُّ إطلالته الأخيرة، ويسمو سمَّوهُ الأبدي وحيداً تحت شجرة صغيرة وعلى سفح جبلٍ أشم.
النهاية كالبداية.
سموٌّ فـي الحياة وفـي الممات.
في ذكرى زيد مطيع دمّاج